في المشهد الثقافي ثنائيّات ، تتقارب وتتنافر، تلتقي وتبتعد، تبوح وتخفي ، ترفع الصوت وتهمس، تفضح معرّية، وتكتم مراعية، تجامل الآخرين بلاحدود، وتصارح بعضهم بلاقيود، ترضى إذا شاءتْ فوق التصوّر، وتغضب فجأة لحدّ الجنون والإلغاء.
ثنائيّات تراها في البيع والشّراء ، في سيرك ومشيك وجلوسك،في سفرك وفي إقامتك، لايخلو منها المجتمع العادي ولا المتحضّر،عند المتعلّم والجاهل، وعند الريفي والمدني، وعلى مستويات متفاوتة، وليست على درجة واحدة وليست على التعميم المطلق، ولكنّها تكون على الأغلب. نراها تبرز بوضوح وجلاء كجلاء الشمس في يوم صيفي، ثنائيات لا يخلومنها الأدب وما يتبعه من حوامل كالصّحافة والملتقيات والمنتديات والنشر والنّقد والفنّ والمسرح والموسيقى .
هي حالة لا بدّ منها لأنّها سمة إنسانية ،ولكنّها بحاجة لضبط إيقاعها وحركتها وتوجّهها، وهي من سمات البشر بشكل عام، لكنّها تنتاب المشهد الثقافي بشكل محموم، تنتابه حضورا وإبداعا في الزّمان والمكان، وتشي بما وراء السّطور والصّفحات والكراسي والسّتارة والمواقع، ولها دارسوها ومتقنوها وراصدوها.
النصّ الإبداعي أيّاً كان شكله وانتماؤه يقوم على هذه الثنائيّات، ينهض ضمن ثنائيّات تلاحقه وتلتحفه وتلازمه ، وهي مبعث الوجود للنّصّ، وهي منبتُ انطلاقته، فالنّصّ بمختلف موضوعاته ودلالاته وتوجّسات صاحبه، تعترضه بل تلزمه على الوجود والنّهوض ثنائيّة الشّكل والمضمون، وهي كثنائية الشّكل والرّوح للكائنات الحية، وفي المنحى ذاته وتفريعاته تتحكم الثنائية في الشكل وتصنيفاته ومقوّماته قديما أم حديثا، ملائما أم غيرملائم، جديدا مبتكرا أم معادا مكرّرا، فيبعث ثانية ثنائية الحيرة والثقة ، وثنائية القبول والرفض. وهذا حال المضمون أيكون جديدا أم مطروقا، هل يقبله الآخرون أم يرقضونه،أهو واضح أم غامض ؟ أأضاف الجديد أم يكرّر ما قاله السابقون ؟ هل سيبقى في ذاكرة الأجيال أم أنه سيموت مع ولادته ؟ فالنصّ الإبداعي مولود نابض اكتملت دورة حياته، ولا يمكن أن يكون نابضا بالحياة، ومواجها للموت دون لحمةٍ شفّافة ومتينة معا بين شكل يكشف ثقافة وحسّ المبدع وقدرته على التقنيّة التي تحميها، وتوقدها روح مبدعة تحترق دون أن تراها. وإلا سمعت خطوات حجريّة لا تلامسها الأذن ولا تحضنها الروح، وهنا تولد ثنائيّة التلقّي، فبقاء النّص وحياته مرهون برؤية صاحبه وما يملكه من زاد معرفيّ وثقافيّ، فالنصّ روح صاحبه وإلا يكنْ هناك نقصٌ وخللٌ في التروية.
الكتابة نتاج فرديٌّ بظاهره، ولكنّه عمل جماعيٌّ استدعتهُ المؤثّرات، والمكوّنات والملكات، وكوّنته المناخات العامة والخاصة. وهذا يستدعي ثنائيّة أخرى، وهي علاقة المبدع بنصّه منفردا في ظاهره، وعلاقته بالآخر قارئاً ومستمعا ومشاهدا من ناحية أخرى، والطّرف الآخر، يلاحق المبدع قبل المخاض الأوّل لأفكاره وآرائه وهمومه وهواجسه. لأنّه بالأساس يتّكئ على الاكتساب المعرفي والثقافي، وينتهي بالاستئناس والمشورة والإعجاب والنّقد، وهذه الثنائيّة إن تُلغَ من ذهن الكاتب كان كمن يحفرعلى سطح الماء أو يبحث عن الملح في دلو ماء..هي علاقة لازمة وموجبة وداعمة، ترفع من قيمة العلاقة، وتنبت غرسات الاحترام والتقدير لتشكّل الدوحة الصافية المزهرة . فالإبداع كالوجه الحسن، يسعى لمن ينظر إليه ، يلفت النّظر، ويبهره. والوجه الحسن جاذب ولافت، ولا يخفى على أحد، وبالعكس يكون الأمر. وما زلتُ أبحث عن صفاءهذه الثنائية ، ونقاء بؤرتها، وتوجُّهها في زمن انقطعت به العُرى والوسائط، وتطاول الغالبيّة على قدسيّة الإبداع وشخوصه ومقوّماته ومتلقّيه. اتسعت الرقعة لتحطم هذه الثنائيات الرابطة والداعمة، فالأشكال اضمحلّت، والأجناس تحت المسميّات العجيبة والغريبة. والمضامين تحرّرت عراها، وانساحت دون وعي ودراية ، والمدّعون الجهابذة ضلّت نفوسُهم قبل أن يضَلّّلوا، ويُضَلِّلوا, ومات التآلف بين النّص الواحد وصاحبه، وانفضّت العلاقة بين الشكل والمضمون، وبين المبدع والآخرين، وتمزّقت العلاقة بين الحجروالبشر فأضحت المنابر حجرا بلا بشر، و صارالإبداع خبرا وورقا بلا بشر .
ما زال في الكأس بقيّة، وما زال بين الناس من يسعى ويتالّم ويأمل، الأرض بوطئها تنظرإلى السماء وتناجيها، والسماء ترقب الأرض لترسل لها البخار ،
هي دعوة لإعادة الاعتبار للثنائيّات المتكاملة والمكمّلة، والتي لا تعيش منفردة ولا يمكن أن تحلّق وترتقي دون الآخر .. فالمنابر تحتاج للبشر ، والبشر بحاجة لمن يحسن تقدير واحترام من حضر.